أوروبا بعد مؤتمر فيينا
مقدمة
سببت الثورة الفرنسية ونابليون المتاعب العديدة لحكومات أوروبا، حتى باتت
الفكرة المسيطرة على عقول عواهل ووزراء التحالف الأعظم ...هي العمل على منع عودة الثورة
الفرنسية ونابليون وما شابهها منعا باثا...وضرورة اجتثاث كل فكر حر من أصوله على الفور،
لئلا يفرّخ وينمو، ويؤثي ثماره الخبيثة. فوراء كل حركة قاسية غشومة من حركات الرجعية،
التي سادت سياسة القارة الأوروبية أثناء الثلاثة وعشرين عاما القادمة، كان يلوح على
الدوام ذكرى مفاسد الثورة حديثة العهد، والخوف المسا ور للنفوس بما قد تعود ثورة أخرى
إلى صنعه مرة ثانية ؛ لعل من جملة ما يستفاد من قراءة هذا النص للمؤرخ الإنجليزي هربرت
فيشر أن الهاجس الكبير الذي حكم القوى الأوروبية الكبرى ، المجتمعة بفيينا في العام
1815 م في إطار البحث عن تسوية لواقع أوروبا بعد انهيار النظام الإمبراطوري، هو القضاء
على جذور الفكر الثوري بأ وروبا، بالنظر لحجم المتاعب التي ترتبت عنه، والعمل على وضع
خريطة جديدة لأوروبا،تعيد الأمور إلى نصابها قبل الثورة الفرنسية والحروب النابوليونية.
وإذا كانت هذه الغاية تتفق ومنطق الصورة العنيفة التي رافقت فرنسا الثورية، ونزعة بونابارت
التي لم تراع مبادئ الحق العام، والحرية، والعدالة، التي تأسست عليها ثورة 1789 م.
فإنها في الوقت ذاته تعد انتصارا وقتيا للتيار المحافظ ودعاة الرجعية بأوروبا.
ولعل صفة الوقتية تعزى أساسا
لكون المنطق الجديد /القديم الذي وجه دعاة هذا التيار، يناقض منطق تاريخ أوروبا خلال
هذا القرن، والذي كانت فيه كل البنيات تدفع نحو الأمام.
من ثمة نتساءل: إلى أي حد نجح مؤتمر فيينا في إقرار الأمن والسلام بأوروبا؟
وما الوسائل التي اعتمدتها الدول المنتصرة لتحقيق ذلك؟ وما انعكاسات ذلك على الخريطة
السياسة بأوروبا؟ وماذا هو رد فعل القوميات الأوروبية حيال هذا الواقع الجديد؟ هل فعلا
نجح الفكر الرجعي في تقويض مبادئ الحرية والعدالة والمساواة التي أسستها ثورة يوليوز
1789 م بفرنسا؟
نتائج مؤتمر فيينا
ـ القضاء على الأنظمة الثورية
الجمهورية في أوروبا كلها هو أمر ضروري لسلامة الدول الكبرى وأمنها
- العمل على تخليص أوروبا من
كل الأفكار الجديدة التي زرعتها الثورة الفرنسية أينما وجدت.
-التمسك في كل مكان بمبدأ الشرعية
القاض ي بإعادة كل الحكام والأمراء الذين أبعدهم نابليون إلى دولهم والمحافظة بكل الوسائل
على الأنظمة الاجتماعية التقليدية.
-عدم الثقة بفرنسا واعتبارها مصدرًا دائماً للشغب والفوض ى والتمرد على
الأنظمة التقليدية في أوروبا.
– إضعاف فرنسا سياسياً وعسكرياً وتقوية التيارات المحافظة.
كان مترنيخ المفاوض النمساوي
ورئيس المؤتمر يعي وضع بلده السياسي جيدا؛ وبالتالي فإنه لا يستطيع بل وليس من حقه
أن يكون كثير المطالب. وكل ما كان يطمح إليه عملياً المطالبة بأن تعاد للنمسا كل الأراضي
التي فقدتها على أيدي الفرنسيين، وأن تصان مصالحها القديمة في ايطاليا وبأن لا تطلق
يد روسيا في تقرير مصير بولونيا. كما أن النمسا كانت تود ألا تطلق يد بروسيا كثيرا
في الشؤون الألمانية. والمحافظة على النظم الملكية القديمة والعمل على منع أي من الدول
الكبرى من الهيمنة والتسلط في أوروبا.
لم يكن للانجليز أي مطلب جدي في القارة الأوروبية، واقتصر مطلبهم على
إقامة توازن في القوى بين دول أوروبا. بحيث لا تطغى واحدة على غيرها. إذ عن طريق هذا
التوازن يمكن ضمان استقرار السلم والأمن في أوروبا ومراقبة فرنسا بصورة فعالة مخافة
أن تعود في المستقبل لإقلاق راحة الآخرين.
كان القيصر الروسي شديد الاعتداد بجيشه الكبير، ولذا كان يشعر بأن من
حقه أن يلعب دوراً أساساً في سياسة القارة كلها، خصوصاً بعد مساهمته الفعالة في القضاء
على الامبراطورية الفرنسية. لذا طالب بأن يتألف حلف عام من الدول الأوروبية الكبرى
بزعامته وذلك لتأمين سلام القارة ولحماية نظم الحكم التقليدية الملكية. وكانت للقيصر
أيضاً مطالب توسعية. كان يريد من الدول أن تعترف بحقه في فنلندا ، وكانت له أيضاً مطامع
في بولونيا، وفي دوقية في رسوفيا وفي المضايق التركية.
كانت بروسيا تريد أن تتوسع في
الأراض ي الألمانية. وكان للوفد البروس ي مطالب أخرى صعبة التحقيق، أبرزها الاستيلاء
على مقاطعتي الألزاس واللورين الفرنسيتين. هذا على الصعيد الحكومي الرسمي، أما على
صعيد الشعب والمثقفين فقد كان البروسيون يريدون توحيد الدويلات الألمانية في دول قوية
شاملة، أو على الأقل اختصار عددها إلى أدنى حد ممكن.
كان موقف تالليران رئيس الوفد الفرنسي حرجاً للغاية، فهو ممثل دولة مغلوبة
مقهورة، يخافها الجميع، ويودون إحاطتها بسياج قوي ، يمنع أذاها عن الآخرين. لذلك عمل
تالليران بمرونة لا مثيل لها على إخراج فرنسا في المؤتمر من عزلتها الديبلوماسية، وبأقل
الخسائر الممكنة.
مقررات مؤتمر فيينا
-1 أعيدت فرنسا إلى ما كانت عليه حدودها قبل الثورة الفرنسية، وأحيطت
بسلسلة من الدول المستقلة القوية لتكون بمثابة العازل بينها وبين الدول الكبرى في أوروبا.
-2 حصل ملك الإنجليز على أراض
ي مقاطعة الهانوفر الألمانية باعتبارها مسقط رأس العائلة المالكة البريطانية، واع ت
رف لإنجلترا بحقها في جزيرة هيليفولاند.
-3 اعترف لروسيا بسيادتها على أراض ي بيسارابيا التي استولت عليها سابقاً
من العثمانيين، وأراض ي فنلندا التي أخذتها من السويديين. وأخذت أراضي دوقية في رسوفيا
ووحدتها مع الأراض ي البولونية الخاضعة للحكم الروس ي وجعلت منها مملكة يجلس على عرشها
القيصر الروس ي نفسه.
ـ4 أخذت روسيا ثلث أراضي سكسونيا
وأراض ي بوميرانيا التي كانت قديماً للسويد واستعادت أراض ي بوزنان البولونية وكذلك
استولت على أراض ي وستفاليا ورينانيا.
-5 مقابل خسارة النمسا لأراضي بلجيكا
حصلت على ترضيات واسعة في ايطاليا فاستولت على أراض ي لمبارديا والبندقية وكذلك نالت
أمارة سالزبورغ.
6 الممالك الألمانية التي أقامها
نابوليون لم تعد إلى أصلها إنما اختصر عددها في 38 دولة ضمت في اتحاد ألماني لضمان
سلامة استقلالها وحدودها.
7 فيما يختص بايطاليا فقد أعيدت
للبابا ممتلكاته وكذلك أكثر الأمراء الإيطاليين،الذين أبعدهم نابوليون أعيدوا إلى إماراتهم
ما عدا تلك التي أعطيت للنمسا أو سردينيا.
8 أخذت أراضي النروج من الدانمرك وأعطيت للسوي د مقابل خسارتها لأراضيها
في فنلندا.
طبعت الفترة الممتدة من سنة 1815 إلى سنة 1823 بسيادة الروح الرجعية وسيطرتها
على أوروبا، فالدول العظمى التي اجتمعت في مؤتمر فيينا لم تحرص فقط على إعادة الأنظمة
القديمة، بل جعلت غايتها المثلى استئصال كل المبادئ الجديدة التي أوجدتها الثورة الفرنسية،
وبصورة خاصة حق الشعوب في المشاركة في تقرير مصائرها، والنظم البرلمانية والدساتير
والانتخابات الحرة والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية.
هذه كلها اعتبرتها الدول الكبرى بدعاً خطرة مخالفة للنظام العام و للنظم
الأخلاقية التقليدية قاعدة التعامل في أوروبا ما قبل ثورة الفرنسيين.
و للوصول إلى تحقيق هذا الهدف كان لا بد من فرض رقابة شديدة في كل أوروبا
على الحركات الفكرية والسياسية ومراقبة الاجتماعات والجمعيات والكتب والمؤلفات. وتمثل
هذا الإتجاه القمعي العنيف في شخص مترنيخ وزير خارجية النمسا الذي بدا للناس بعد سنة
1815 بطل المحافظة على النظم الملكية الرجعية والعدو الأكبر لدعوات التغيير والتطور.
إن نجاح مترنيخ المدعوم من قيصر
روسيا في المحافظة على الأوضاع السياسية التي أقرها مؤتمر فيينا في أوروبا حتى منتصف
القرن التاسع عشر، لم يوازه قضاء كلي على الحريات والديموقراطية والأفكار الجديدة.
لأن ذلك كان يناقض منطق التاريخ الأوروبي وقتئذ، الذي كان فيه كل ش يء يجرّ نحو الأمام.
فقد ظهر، وحتى قبل أن ينفرط عقد المؤتمرين في فيينا، إن مهمة مترنيخ لن يكتب لها النجاح
بسهولة على الأقل في أوروبا حيث ظلت الديموقراطية تمارس بشكل ممتاز في بلدان عدة منها:
انكلترا وسويسرا وفرنسا. ففي مثل هذه البلدان كانت هناك دساتير قوية تعتبر أساس التنظيم
السياس ي وضابط العمل الإداري .
ليس هذا فقط بل إن الحريات العامة
بقيت بعد سنة 1815 تمارس بشكل ربما كان أفضل وأوسع مما كان يجري قبل سقوط نابوليون.
ثم إن الإقطاع والامتيازات القديمة زالت إلى غير رجعة فالمساواة في الفرص
والتساوي أمام القانون أمور لا يعترض عليها أحد على الإطلاق.
ولم يكن استمرار الأفكار الثورية فقط في بعض المؤسسات السياسية وإنما
كان أيضاً وهو الأمر الأهم والأخطر في الفكر الأوروبي. فآراء فلاسفة القرن الثامن عشر
المتحررة وأفكار الكتاب والسياسيين الجيرونديين عن الجمهورية الحرة ظلت حية ولمدة طويلة
في ضمائر وفي مؤلفات الكثيرين من المفكرين الفرنسيين والألمان والإيطاليين.
هذه أمور كلها لم تكن لترض ي مترنيخ وحليفه القيصر الروس ي ولم تكن تتطابق
مع آرائهما وأفكارهما السياسية. ولمجابهتها كانا يتوسلان كلما أمكن ذلك التدخل المباشر
أو المؤتمرات الدولية الدورية.
ثالثا: الثورات الأوروبية لعام 1830 شهد العام 1830 م اندلاع سلسلة من
الثورات والحروب الداخلية في أكثر البلدان الأوروبية، وجاءت كرد فعل على السياسة الرجعية
المحافظة، وما رافقها من ضغط وتدخل في شؤون الدول الصغرى من قبل مترنيخ وزير خارجية
النمسا، وقيصر روسيا بصورة خاصة. وكان هدف الأحرار في معظم الدول التي شهدت ثورات العام
1830 م إقامة حكم دستوري، يضمن للمواطنين حقوقهم في الحرية والمساواة وتقرير مصيرهم.
وكانت الطبقات البورجوازية في كل واحدة من هذه البلدان هي التي تتولى
الدفاع عن المبادئ الحرة وتقوم بالدعوة لها. وشكلت النزعة القومية قوة الدفع الكبرى
لهذه الثورات، سيما وأن العديد من الدول أخضعت للحكم الأجنبي- بموجب مقررات مؤتمر-
دون اعتبار لرغبات شعوبها، ولا لخصوصياتها القومية ، و اتخذت هذه الثورات شكلاً دموياً
عنيفاً .
ثورة يوليوز 1830 الفرنسية
وجد الملكيون المتطرفون في الملك شارل العاشر - الذي ارتقى إلى العرش
بعد وفاة لويس الثامن عشر سنة 1824 – فرصة للعودة بكل المؤسسات والنظم الفرنسية إلى
ما كانت عليه قبل سنة 1789 . وهكذا يعطيهم تعويضاً » قانون المليار « استعاد ا لأشراف
امتيازاتهم القديمة، واستصدروا قانوناً عما صادرته منهم الثورة. و سمح للآباء اليسوعيين
)الجزويت( بالعودة للبلاد، ووضعت الجامعة ، ومؤسسات التعليم العام تحت رئاستهم. لقد
أثارت هذه القرارات الرجعية موجة عارمة من المعارضة في جميع أنحاء البلاد، وتخوف الناس
من أن ي قدم الملك على مزيد من الخطوات الرجعية، كأن يلغي الدستور، ويعيد الملكية المطلقة
وفي 27 يولي وز تم التفاهم بين الجمهوريين والجمعيات العمالية على ضرورة اللجوء إلى
العصيان المسلح.
وفعلاً نزل العمال والطلاب إلى الشوارع وأقاموا المتاريس، وأغلقت المصانع
أبوابها، وجرى توزيع الأسلحة على الناس من قبل الصناعيين.
وفي اليوم التالي احتل الثوار قصر الملك في باريس وسيطروا على العاصمة
كلها، وهرب شارل العاشر إلى الخارج.
ثورة بلجيكا
جمعت أراضي بلجيكا وهولندا -بناء على مقررات مؤتمر فيينا- في دولة واحدة ، وفي تجاهل تام للفروق التاريخية
واللغوية والدينية والحضارية بين الشعبين. ولم يبد الهولنديون منذ البداية حكمة ومرونة
في معاملتهم للبلجيكيين، بل جعلوا لغتهم الهولندية لغة الدولة الرسمية، واحتكروا الوظائف
الكبرى في الجيش والإدارة والقضاء والسلك الديبلوماسي وأخذوا من مقاعد مجلس النواب
أكثر مما يحق لهم بالنسبة لعددهم. وكان لثورة باريس يوليوز 1830 م صدًى كبير لدى البلجيكيين،
فاندلعت في بروكسل أعمال عنف دامية عشية الخامس والعشرين من غشت 1830 م، وبادرت البورجوازية
الوطنية لتأييد الثورة ومساعدتها. وتولت حكومة بلجيكية مؤقتة مهمة إتمام جلاء الهولنديين
عن البلاد.
وفي 4 أكتوبر سنة 1830 أعلنت
استقلال البلاد وقيام دولة بلجيكا المستقلة.
ثورة بولونيا
اقتصرت المعارضة والعداء للنظام النمساوي على أوساط الشبان المثقفين،
وأبناء النبلاء الصغار، والبورجوازيين المشبعين بالمبادئ الغربية الحرة، ومن ثمة كانت
إمكانية نجاح ثورة 21 نونبر 1830 م ضئيلة للغاية، بل شبه مستحيلة. فضلا عن تفاوت الإمكانيات
بين الثائرين وخصمهم الإسكندر الأول صاحب أكبر جيش بري في أوروبا. فدخلت قواته العاصمة
فرصوفيا، وقضت على زعماء الثورة، ونفي الآلاف من مناضليها إلى سيبيريا، وألغي الدستور
وأخضعت البلاد للحكم الروس ي المباشر مزيلة بذلك كل أثر للوجود السياس ي للأمة البولونية.
وأدى فشل الثورة إلى هجرة حوالى عشرة آلاف بولوني أكثرهم من العلماء ورجال الأدب والفن
والفكر ، استقروا في فرنسا، كان هاجسهم الأساس المحافظة على التراث الفكري والفني والأدبي
البولوني في العاصمة باريس. -4 الثورات في ايطاليا قام بعض أعضاء الجمعيات السريّة
الإيطالية) وخصوصاً جمعيات الفحامين الكاربوناري ( سنة 1831 م بحركات تمرد في بعض المقاطعات
الإيطالية) مودينا، وبارما- وبعض المقاطعات البابوية ( متأثرين بثورة يولي وز الفرنسية،
تحدوهم رغبة رومانسية مثالية، لا تستند إلى أي أساس واقعي أو عسكري .
وكانت غايتها الأسمى مقاومة استبداد الأمراء والحكام. ولم يتردد النمساويون
منذ البداية في مواجهة هذه الأحداث بشدة وحزم مخافة أن تتطور وتنتشر في كل البلدان
الإيطالية، فأمر مترنيخ باحتلال المقاطعات المتمردة وقضى على الثائرين فيها، وخنق حركات
التمرد في مهدها.
حوادث سويسرا وانكلترا
لم تمر أحداث سنة 1830 في أوروبا دون أن تخلف آثارها في سويسرا وإنجلترا،
ولعل أهم ما يميز التطورات السياسية بالبلدين هو طابعها القانوني، وبعدها عن العنف
والثورة. فقد كان من تداعيات ثورة يوليوز الفرنسية في سويسرا أن نشطت المعارضة، والتي
ضمت فئات الأحرار والمثقفين من خريجي الجامعات الألمانية، وحصلت على مكاسب انتخابية،
جعلتها أكثر قدرة على مواجهة الفئات المحافظة، وعلى تحقيق إصلاحات دستورية هامة بالطرق
السلمية. وهمّت أساسا إقرار السيادة للقوميات المختلفة في سويسرا، والمساواة بين المواطنين
دون النظر إلى أوضاعهم الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية، ثم إعطاء مزيد من الضمانات
لاحترام حرية الرأي والصحافة.
وتلخصت مطالب المتظاهرين في إنجلترا
في تعديل الأنظمة الانتخابية، التي باتت لا تتناسب مع تطور حركة السكان في القرن التاسع
عشر. وتحت ضغط التظاهرات، تم تعديل قانون الانتخاب وأعطي للمدن الكبيرة نصيبها من التمثيل
النيابي، كما منح حق الانتخاب لمزيد من المواطنين فارتفع عدد الناخبين من نصف مليون
إلى ثمانماية ألف. ويعتبر هذا التعديل انتصارًا كبيرًا للبورجوازية، صاحبة السيادة
في المدن الكبرى .
ثورات العام 1848
لم تحدث ثورات العام 1830 م
- إذا استثنينا اليونان وبلجيكا- تغيرات عميقة على المشهد السياس ي بأوروبا، وهو ما
يمكن اعتباره -إلى حد كبير - نصرًا لدعاة الرجعية والمحافظة على الأوضاع القديمة في
أوروبا وفي مقدمتهم قيصر روسيا، ومترنيخ وزير خارجية النمسا. إلا أنه في العام م
1848 م، وبفضل بروز فكرة القوميات بشكل قوي وما رافقها من أزمات اقتصادية، بات التغيير
أمرًا حتمياً ، حتى ولو كان عليه أن يتخذ طريق العنف والثورة. وكان الشعب الفرنسي كعادته
دوماً سباقاً إلى التمرد والعصيان في طلب التغيير، ثم إعلان الثورة، وحمل السلاح.
ثورة 1848 م الفرنسية وإعلان الجهمورية الثانية
لعل من أهم نتائج ثورة يوليوز 1830 م ً بفرنسا أن قضت مبدأ على الحق المقدس،
الذي كان يدعيه ملوك فرنسا منذ عهد سحيق، وأعلنت معه عن نهاية حكم آل بوربون، وبدّدت
مبدأ الشرعية الذي جاء به مؤتمر فيينا، وتمسّك به المتطرفون من الملكيين. لذلك اعتبر
البعض تنصيب لويس فيليب الأول 1848-1830 م( من آل أورليان استمرارا لثورة 1789 م، وذلك
بفضل نزوعها إل (
Louis-Philippe Ier تثبيت مبادئ المساواة، والعلمانية، والحرية،
والدستور. تخفي هذه الصورة الجديدة التي ظهرت عليها ملكية يوليوز 1830 م – في بادئ
أمرها- واقعا سياسيا فرنسيا غاية في التعقيد، ذلك أن الملك الجديد واجه منذ تنصيبه
معارضة عنيفة. فإلى أقص ى اليمين وقف ويمثلون بقايا الفرع الرئيس ي من آل بوربون ،»
أنصار الشرعية « من كانوا يطلقون على أنفسهم اسم وأنصارهم. وكانوا يريدون إبقاء العرش
الفرنس ي في بيت لويس الثامن عشر. وكان لهؤلاء دعامات شعبية قوية في الأرياف وبين المزارعين
وفي أوساط الإكليروس. وإلى يسار الحكم وقف الجمهوريون والمتطرفون ودعاة التغيير الجذري
، يعارضون الملك الجديد، ويأخذون عليه في الظاهر على الأقل كون عهده لم ينبثق عن إرادة
شعبية عامة ظهرت في استفتاء جماهيري ، وإنما جاء نتيجة تسوية سرية تمت في دهاليز مجلس
نيابي انتخب هو أيضاً في ظل ملكية شارل العاشر الاستبدادية. أما حزب الملكيين الدستوريين
الذي كان قاعدة الحكم الجديد، والذي ارتقى لويس فيليب العرش على أكتافه، فهو أيضاً
لم يلبث أن انقسم على نفسه إلى جناحين متعارضين: جناح اليسار، ويسمون أنفسهم الحركيين
كانوا يرو ن في ثورة يوليوز 1830 م بداية لتحول اجتماعي واقتصادي واسع، وأنه على الحكم
الجديد أن يظل متابعا لتطورات أوضاع البلاد محاولاً أن ينفتح عليها وأن يتجاوب معها
بحيث يكون في تطور وتغير مستمرين. وجماعة اليمين، ويسمون أنفسهم المقاومة، وكانوا يرون
أن ثورة يوليوز وما تبعها من إصلاحات دستورية قام بها العهد الجديد، وهي أقص ى ما كان
يريده الشعب الفرنسي، وعلى الحكم الجديد بعد ذلك أن يستقر وأن يعمل على تهيئة الأمن
والاستقرار والهدوء للأمة في الداخل كما في الخارج. ولما كان الجناح اليميني المحافظ
في الحزب الملكي الدستوري يمثل بالدرجة الأولى أفكار ومصالح الطبقة المتوسطة من الفرنسيين،
صاحبة الفضل في حمل لويس فليب إلى العرش، وكانت أفكار هذه الفئة أكثر مطابقة لمصالحه
وأغراضه فقد، اختار الملك هذا الفريق من الدستوريين وأوكل الحكم إلى زعمائهم، كما أن
كثيرا من التعديلات السياسية والاجتماعية التي اعتمدها، أظهرت بالملوس تحيزه للطبقة
المذكورة على حساب الفقراء، الذين شكلوا المادة الاجتماعية التي يعول عليها الجمهوريون
المتطرفون. وسّعت هذه السياسة المتحيزة للويس فليب من قاعدة المعارضة، إذ تعددت المؤامرات
الرامية إلى إسقاط النظام برمته، وأخذت الدولة جرّاء ذلك تعتمد تدابير أكثر استبدادية
ورجعية. وقد رأينا لويس 10 فيليب وهو الذي انتخب على أساس اعترافه بالدستور واحترامه
لنصوصه يضطر أكثر من مرة للخروج عنها. وتعاظمت متاعب العرش السياسية بعد بروز تيارين
سياسيين، وهما البونابرتية و الإشتراكية. وقد أسس الأول خطابه على الموقف السياس ي
الضعيف الذي ظهرت به فرنسا في علاقاتها الخارجية، ونجح في خلق نوع من الحماس والحنين
لد الفرنسيين لزمن نابليون بونابرت وأمجاده، في حين شكلت الأزمة الاقتصادية التي مرت
بالبلاد بين سنتي 1846 و 1847. وما ترتّب عنها من أزمات اجتماعية، وتعالي الأصوات المطالبة
بالإصلاح، فرصة للتيار الثاني لإظهار الحكومة الفرنسية بمظهر القاصر عن إيجاد حلول
سريعة لمشاكل فرنسا] تراجع الوثائق في الملحق. وجدت المعارضة الفرنسية ضالتها في الوضع
الاقتصادي المتدهور بالبلاد، فتخلت مؤقتاً عن خلافاتها المذهبية والعقائدية والطبقية،
وتفاهمت على حد أدنى من المطالب تتعاون لتحقيقها. ولم تسكت الدولة عن هذا النشاط المتزايد
وبادرت لقمعه بالقوة، فمنعت الاجتماعات السياسية في مطلع سنة 1848 م، مما أدى إلى وقوع
الاضطرابات وحصل اصطدام بين الجنود والشعب يومي 22 23 فبراير سقط فيه العديد من القتلى وتدهور الوضع
في كل مكان بصورة سريعة، وانتصبت المتاريس وارتفعت أعلام الثورة والتمرد.
ولم يبق أمام لويس فيليب لإنقاذ البلاد إلا أن يسير على الدرب الذي سبق
أن سار فيه سلفه شارل العاشر فتنازل عن العرش لحفيده وغادر باريس إلى منفاه في انجلترا.
وأعلنت الجمعية الوطنية الفرنسية في 25 فبراير - تحت ضغط الجماهير- الجهمورية الفرنسية
الثانية. ورغم الإجراءات الدستورية المهمة التي باشرتها الحكومة المؤقتة،فقد كان الارتجال
هو الطابع الغالب على مشاريعها الاقتصادية، التي رامت من خلالها التخفيف من الأزمة
الاقتصادية.
وبادرت انجلترا منذ البداية للاعتراف بالجمهورية الفرنسية الثانية مبدية
معارضتها لأي تدخل من جانب الدول الأخرى في شؤو ن فرنسا. وطلبت النمسا من فرنسا أن
تعلن احترامها للاتفاقيات القائمة وتقصد بذلك مقررات مؤتمر فيينا. إلا أن الثورات لم
تلبث أن انتشرت في كل أنحاء أوروبا مما جعل كل واحدة من دول التحالف المقدس تهتم بمشاكلها
الخاصة وبصيانة مصالحها مكتفية بتصريح لامارتين وزير الخارجية الفرنسية الذي أعلن فيه
ولو بشكل غامض أنه ليس في نية فرنسا أن تعود عن الاعتراف باتفاقيات سنة 1815 -2 ثورة
النمسا والمجر: توهم مترنيخ أن بمقدوره عملياً أن يراقب كل منافذ بلاده ليتأكد من أن
رياح الفكر الحديث لن تجتاز الحدود، وتصيب النمساويين بأمراض الثورة، والاضطراب التي
عرفتها شعوب أخرى منذ قيام الثورة الفرنسية. ولم تسعفه نزعته الرجعية والمحافظة في
الوعي بأن سنة التطور والتغيير، تطال 11 الشعوب بالضرورة. وحين أطلت سنة 1848 م كانت
النقمة على مترنيخ وسياسته شاملة وعامة، وكانت الاتهامات والانتقادات توجه له علناً
ومن قبل جميع شرائح المجتمع. وقويت الدعوة لإقامة نظام ديموقراطي دستوري يكفل الحريات
العامة ويقيم المساواة والعدالة بين المواطنين.
ومع إدراك مترنيخ لحقيقة الوضع فقد عجز عن إحداث التغيير بنفسه، لأنه
تقدم كثيرًا في السن، وفقد المرونة السياسية والقدرة على التكيف، فقعد في قصره ينتظر
ما تجيء به الأيام من أحداث.
لقد تضافرت العديد من الشروط لتجعل ريح الحرية تطال النمسا بدورها في
العام 1848 م، فعلى سبيل المثال نجد الإمبراطور
فرديناند الأول العاجز في السن والعقل غير قادر على تحمل مسؤوليات الحكم، في جو مشحون
بالدسائس والمؤامرات.
وعلى صعيد الحريات العامة كانت
النقمة عارمة من الأجهزة البوليسية التي أقامها مترنيخ ووثق بها وبقدرتها في منع رياح
الفكر الحر من الوصول إلى عواصم وجامعات النمسا.
والأهم مما تقدّم بروز الشعور القومي عند شعوب الامبراطورية وظهوره كقوة
فاعلة. هذه الظاهرة هي أخطر ما كان يخشاه مترنيخ ولعله كان يبرر سياسته لنفسه ولمريديه
بأن الكبت واضطهاد الحريات إنما كان يقصد منهما الحيلولة دون تسرب الروح القومية التي
أثارتها في أوروبا الثورة الفرنسية إلى شعوب الامبراطورية فتكون بذلك نهايتها.
وبالفعل، ففي 13 من مارس 1848 هاجم المتظاهرون مجلس الديات وأجبروا نوابه
على التوجه إلى القصر وسط المتظاهرين للمطالبة بإقالة مترنيخ. وفي هذه الظروف تخلت
العائلة المالكة فجأة عن مترنيخ ، فغادر البلاد إلى منفاه في انكلترا.
واستغل المجريون الواقع السياسي الجديد في النمسا، والمصاعب التي صارت
تلاقيها الدولة بسبب الثورات في ايطاليا، فجعل في مارس مجلس الديات يقر إقامة حكومة
برلمانية ويضع دستور جديد للبلاد. كما ألغيت الامتيازات المالية القديمة للطبقة الأرستوقراطية
وأزيلت معها الحقوق الاقطاعية ومنحت الحريات العامة، وحرية الصحافة بصورة خاصة.
الثورات الايطالية
إذا كان النمساويون قد وفقوا سنة 1830 م في قمع طلائع حركات التمرد في
إيطاليا بسرعة كبيرة، وفرضوا بعد ذلك على البلاد نظاماً صارماً من الرقابة والقمع،
فإن ذلك لم يمنع نبتة الحرية والاستقلال التي غرست زمن الفرنسيين في هذا البلد من أن
تستمر حية ترعاها آمال وتطلعات العناصر الوطنية الإيطالية في الداخل والخارج. ذلك أن
الجمعيات الوطنية الإيطالية ظلت دائمة العمل والنشاط والنضال، وذات الأمر بالنسبة للفارين
من الايطاليين في الخارج.
وهكذا ما إن حلت سنة 1848 م حتّى كانت القضية الوطنية قد أصبحت واضحة
للغاية وبات كل ايطالي يعرف أن عليه أن يسعى لتحقيق الأهداف الثلاثة التي حددها مزيني
وهي الجلاء والإستقلال والوحدة. ولما كانت العناصر الوطنية في إيطاليا تدرك أن الحصول
على دساتير حرة أمر مت رابط إلى حد كبير بقضية التحرير من الحكم الأجنبي، فقد بات أمل
كل ايطالي محاربة النمسا وطرد جنودها من البلاد. وكان أول من اقتنع من الحكام الايطاليين
بهذه الفكرة الملك شارل البرت الذي تعهد بمحاربة النمسا. فأرسل شارل ألبرت جيوشه إلى
الشمال وأعلن الحرب على النمسا في 25 مارس سنة 1848 م تلبية لنداء اخوانه في البندقية
ولمبارديا.
الثورات في ألمانيا
أظهرت أعمال العنف والثورة التي اندلعت في كان مكان بألمانيا في العام
1848 م أن المطالبة بالحرية والديموقراطية كانت مشفوعة دوماً بالدعوة لوحدة الألمان
ولقيام دولة ألمانيا الكبرى موحدة، حرة، مستقلة.
فبالنسبة لكل العمال والفلاحين والطلاب والمثقفين والبورجوازيين ودعاة
الحرية والديمقراطية كانت الوحدة هدفاً مشتركاً يجب النضال من أجله. فالنضال من أجل
الوحدة صار قاسماً مشت ركاً للمطالبة بالحرية وللمطالبة بالدستور وبالديمقراطية وللمطالبة
بالتخلص من هيمنة النمسا على شؤون العالم الجرماني. وانطلاقاً من الرغبة العامة بقيام
الوحدة دعا فريق من الأحرار في مدينة هيدلبرغ إلى عقد 13 مؤتمر عام في مدينة فرانكفورت،
يكون بمثابة برلمان تحضيري يحضره مندوبون عن جميع المجالس التمثيلية الألمانية. ولما
كان تحقيق الوحدة بصورة عملية يحتاج إلى دولة كبيرة وجيش فعال فقد ارتأى المؤتمرون
أن يعرضوا هذه المهمة على الملك البروسي فريدريك غليوم الرابع 28 مارس 1849 .
إلا أن رد فعل الملك المذكور
أجهض مطلب الوحدة في مهده. وتكفل الجيش البروسي بعد ذلك بالقضاء على كل حركات التمرد
والعصيان التي قامت هنا وهناك في ألمانيا كنتيجة لفشل المؤتمر.
تعليقات
إرسال تعليق