قامت ثورة بني غانية وهم من بقايا المرابطين على أسس خالفت تلك التي قامت عليها دولة الموحدين، اذ أعلن زعماء هذه الحركة الحرب على الموحدين ودخلوا معهم في نزاع طويل الأمد استمر قرابة نصف قرن، وأعلنوا ولائهم للخلافة العباسية و حملوا شعارها جريا على عادة سلفهم الملثمين اللمتونيين الذين اعتبر بنو غانية أنفسهم خلفاء شرعيين لدولتهم المرابطية المنهارة.
وقد استمرت حربهم مع الموحدين مدة خمسة عقود كانت تلك المعارك الطاحنة من الأسباب التي ساهمت في ضعف الخلافة الموحدية ، و من ثم سقوطها.
يرجع أصل بني غانية الى قبيلة مسوفة الصنهاجية من الملثمين / صنهاجة الصحراء، واشتهروا ببني غانية على اسم امهم غانية ؛ و يفسر ذلك بكون الملثمين كانوا يتزوجون نساء كثر فينسب الأبناء لأمهاتهم تمييزا لهم داخل البيت العائلي الواحد، و هو ما يفسر وجود قادة في دولة المرابطين ينسبون لأمهاتهم لداوود بن عائشة و يحيى بن فانو و غيرهم.
كان زكرياء بن يحيى ابن غانية قد تولى اعمال في قرطبة زمن امير المسلمين علي بن يوسف اللمتوني، ثم تولى اخوه ابن غانية حكم الجزائر الشرقية بالأندلس ( جزر البليار بإسبانيا حاليا) التي ظل يحكمها حتى انهيار امارة المرابطين ، و بعد بسط الموحدين سيطرتهم على الاندلس بقيت امارة بني غانية الجزرية خارج سيادة الخلافة، و بعد وفاة امير شرق الاندلس ابن مردنيش عام 568ه ضمت ممتلكاته في كل من بلنسية و مرسية و شاطبة و دانية و كامل الساحل الشرقي الى الخلافة الموحدية أصبحت جزر البليار التي يحكمها بنو غانية الهدف التالي و الأخير للخلافة الموحدية لبسط سلطانها على كامل الاندلس و توحيدها تحت لوائها.
استطاع بنو غانية ان يقودوا ثورة في المغرب الأوسط ضد الخليفة الجديد يعقوب المنصور بعد الاضطراب الذي حصل إثر مقتل ابيه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن اثناء احدى معاركه بغرب الأندلس، و احتلوا مدينة بجاية بعد مهاجمتها ب 4 الاف من الميارقة الملثمين ؛ مستغلين ضعف حاميتها العسكرية ، فكان بذلك من سوء حظ الموحدين ان ابتليت دولتهم بمشكلة بني غانية بعدما لم تكن الدولة تقدر حركتهم الثورية حق تقديرها.
ولقمع هذه الحركة قام الخليفة المنصور بتوجيه جيش قوامه 12000 مقاتل والاصطدام الثوار من بني غانية الميارقة واحلافهم العربان الهلالية ومهاجمتهم برا بحرا واسترداد ما استولى عليه راس الفتنة علي بن غانية الذي انسحب الى الصحراء نحو بلاد الجريد.
تحالف بنو غانية اثناء حملتهم على مناطق الخلافة الموحدية بالمغرب الكبير مع كل من القبائل العربية الهلالية والأمير شرف الدين قراقوش التقوى الأرميني الذي كان يقود حملة ايوبية على الشمال الافريقي ونجح في اخضاع كل من فزان وطرابلس الغرب وبدا في التقدم غربا.
لقد تمكن المتمردون من فتح افريقية و طرابلس و أجزاء من المغرب الأوسط ما اضطر الخليفة يعقوب المنصور سنة 583ه للخروج من العاصمة مراكش نحو افريقية مجددا لإنهاء الثورة و قمع المتمردين و اصطحب معه جيش جرار قوامه 20000 مقاتل، بعد دخول الجيش الموحدي لإفريقية دخل الخليفة مدينة تونس التي لم يستطع ابن غانية و حليفه قراقوش ان يستوليا عليها و بعد معارك ضارية استرد منهما المنصور ما اخذاه من مدن و مواقع ، كما قتل علي بن غانية و خلفه اخاه يحيى بن غانية الذي دخل في نزاع مع قراقوش انتهى بمقتل قراقوش و استيلاء ابن غانية على ممتلكاته ، فخلت بذلك الساحة لابن غانية الذي استولى على كامل بلاد افريقية مستغلا انشغال الموحدين بقتال الدويلات المسيحية الإيبيرية في الاندلس و الثورة الداخلية في المغرب الأقصى ( حركة المهدي أبو القصبة في السوس ).
لم تنتهي حركة بني غانية الملثمين الا باستيلاء الموحدين على الجزر الشرقية الاندلسية المعقل الرئيسي لبني غانية بعدما أرسل الخليفة الموحدي الناصر حملة بحرية كبرى انتهت بضم الجزر الثلاث للخلافة الموحدية ؛ حيث سقطت عاصمتهم جزيرة ميورقة أولا ثم تبعتها البقية.
بعد ان قطع الناصر الموحدي عن ابن غانية بافريقية المدد البحري باسقاطه لجزر البليار عقر دار بني غانية ، اتجه لمهاجمته و انهاء ثورة و ضم افريقية لسيادة الخلافة مجددا ؛ حيث حقق انتصارات ساحقة و وجه البعوث و الحملات لاسترداد المدن التي استولى عليها يحيى ابن غانية في افريقية ، و قبل عودته للعاصمة اختار الخليفة الناصر الشيخ ابي محمد بن ابي حفص الهنتاتي عاملا على افريقية بإيعاز من شيوخ و وزراء الموحدين ؛ و قد كان الشيخ أبي محمد هذا هو و اباه قبله محل ثقة الخلفاء الوحدين ،كما ان والده الشيخ أبي حفص الهنتاتي كان اهم أعضاء طبقة العشرة/ الجماعة اكثر أصحاب المهدي ابن تومرت نفوذا آنذاك ، فضلا عن وصية ابيه الخليفة يعقوب المنصور قبل وفاته بالاهتمام بابي محمد و الاستماع لنصائحه و اخذ مشورته و قد امتاز أبو محمد بن ابي حفص بحسن التدبير و رجاحة العقل ما مكنه من التصدي لخطر ابن غانية و قمع ثورته؛ اذ انتهى الامر بابن غانية بهزيمة ساحقة عند نهر شابو عام 1207م و جرح يحيى بن غانية و فر الى الصحراء مثخنا بجراحه ، ما جعل ابن غانية ينتقل الى المغرب الأوسط بعد فشل في افريقية مهددا بذلك مدينة تلمسان القريبة من العاصمة الموحدية مراكش.
انتهت حركة يحيى بن غانية بهزيمته على يد والي افريقية ابي محمد بن ابي حفص الهنتاتي واخمدت فتنة بني غانية بصفة نهائية.
لقد تسبب ثورة بني غانية في انعكاسات خطيرة على الخلافة الموحدية كانت من أسباب ضعفها و ثم سقوطها؛ اصابت خزينة الدولة الموحدية عجز مالي أدى لإفراغ بيت المال نظرا لما تطلبه القضاء على ثورة بني غانية من أموال طائلة لتمويل الحملات ، كما خسرت الخلافة خيرة جندها و قادتها الذين فقدوا حياتهم في محاربة هذه الحركة ؛ مثل ابن الروبرتير الفرنجي القائد الموحدي الشهير -الذي اعدمه ابن غانية انتقاما لما فعله بأسرته و حريمه بعد حيلته التي مكنت الموحدين من بسط سيطرتهم المؤقت على جزر البليار زمن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن - و غيره من القادة الاخرين، فضلا عن استفادت الدويلات و الممالك المسيحية شمال الاندلس من انشغال الموحدين في قمع ثورات بني غانية المتكرر؛ فكلما سمع ملوك قشتالة و البرتغال و غيرهما انباء خروج الخليفة الموحدي لقمع ثورة ابن غانية بدأوا بمهاجمة مدن و حصون المسلمين بالأندلس و نهب القرى و الضواحي ؛ كما فعل سانشو ملك البرتغال الذي تمكن من الاستيلاء على مدن باجة و يابرة و حصن البور قرب شلب ثم شلب نفسها عام 1189م اثناء انشغال الخليفة يعقوب المنصور الموحدي بمقارعة ابن غانية في افريقية، و خلال السنة نفسها هاجم ملك قشتالة الفونسو الثامن مستغلا هذا الوضع و اغار على نواحي قرطبة و استولى على حصنين في احواز اشبيلية، و بذلك يتضح كيف كان النصارى يستغلون انهماك الموحدين في اخماد اضطرابات بني غانية لمهاجمة مسلمي الاندلس .
كما ساهمت ثورة بني غانية في خسارة الموحدين لمعركة العقاب بشكل غير مباشر ؛ حيث ارهقت هذه الحركة الخلافة الموحدية ماليا ، فعندما استولى الناصر على الخلافة اضطر لتسيير حملتان كبيرتان ، الأولى لفتح جزر البليار معقل بني غانية و الثانية لسحق ثورة يحيى بن غانية، و قد انفق في هذه الحملات على الجيش مبالغ مالية كبيرة فضلا عن ما انفقه الموحدون لإصلاح الخراب و الاضرار التي نتجت عن حروب ابن غانية في افريقية و المغرب الأوسط و طرابلس، فلما كانت معركة العقاب لم يستطع الناصر دفع جامكية الاجناد ما جعلهم يسيرون للمعركة متثاقلين و ينهزمون قبل المواجهة لان الناصر تأخر في منحهم ارزاقهم مدة أربعة اشهر كما يروي المراكشي ، فضلا عن ترك الشيخ ابي محمد الهنتاتي مستشار الخليفة و اقرب حاشيته له واليا على افريقية لمنع تجدد الاضطرابات بها و ذلك حسب بعض الاخباريين و المؤرخين بايعاز من الوزراء و شيوخ الموحدين الذين يرون في بقاء الشيخ ابي محمد بن ابي حفص الهنتاتي داخل البلاط الموحدي يشكل خطرا على مصالحهم الشخصية رغبة منهم في توجيه الخليفة الناصر وفق ارادتهم و هو ما سيحدث لاحقا مع الوزير ابن جامع الذي تسببت سياساته في وقوع كارثة العقاب.
اثرت ثورة بني غانية كذلك على النشاط الزراعي في افريقية التي يصفها الجغرافيون و الرحالة بانها من اخصب المناطق الزراعية في منطقة الغرب الإسلامي، فيقول البكري مثلا عن باجة :
( ..... بساتينها عظيمة تطرد فيها الماء و ارضها سوداء مشققة ..... ) غير ان ثورة ابن غانية خربت جميع نواحي الحياة الزراعية.
وعمل ابن غانية على قطع المياه و تغوير المجاري و بالتالي الاضرار بالنشاطات الفلاحية ضمن سياسة الأرض المحروقة ، فأثناء حصاره لقسنطينة قطع الماء عنها كما شير لذلك ان قنفذ.
كما قام كل من الموحدين و بني غانية على حد سواء على تخريب الزروع و نهبها و قطع الأشجار المثمرة و النخيل ؛ مثلما فعل المنصور الموحدي عند حصاره لمدينة قفصة من قطع لأشجار النخيل، او كما فعل ابن غانية عند حصاره لقابس و في ذلك يقول التيجاني ان ابن غانية قطع كل غابات قابس و لم يترك الا نخلة واحدة للعبرة.
كل هذه الاثار التخريبية التي خلفتها ثورة ابن غانية ساهمت في تراجع اقتصاد افريقية ، ما انعكس سلبا على المداخيل الجبائية للخلافة الموحدية بانقطاع خراج افريقية أحيانا و انعدامه تارة أخرى، فضلا عن كون هذه الحملات الكبرى التي وجهها الخلفاء الموحدين ناحية افريقية استلزمت نفقات كبيرة من توفير الاكل و الشرب و الاخبية و الإقامة و العلاج و التدفئة و السلاح و علف الدواب طوال فترة مكوث الجيش الموحدي بإفريقية ؛ و هو ما نتج عنه عجز مالي أصاب بيت المال الموحدي ما جعل الخليفة حينئذ يعجز عن دفع رواتب الجنود ما نتج عنه كارثة العقاب التي بدورها كانت السبب الرئيسي لتدهور الخلافة الموحدية و التمهيد لانهيارها و زوالها لاحقا.
ويذكر المراكشي ان بيت المال في الخلافة الموحدية كان يرتفع اليه قبل ثورة بني غانية وفر مئة و خمسين بغلا ( أي مئة و خمسون بغلا محملا بالذهب ) ، و يروي ابن عذاري ان خراج بجاية قد انعدم كليا بعد فرار ابن غانية عنها ، و يروي التجاني ان ما انفقه الناصر في حملته على افريقية بلغ 150 حمل ( حمل بعير ) من الذهب.
المصادر و المراجع
رحلة التجاني، أبو محمد عبد الله بن محمد بن أحمد التجاني .
البيان المغرب في تاريخ المغرب والاندلس لابن عذاري.
المعجب في تلخيص اخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي.
دولة الإسلام في الاندلس للدكتور محمد عبد الله عنان.
جزر الأندلس المنسية التاريخ الإسلامي لجزر البليار تأليف د عصام سالم بسالم.
النشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي خلال القرن السادس الهجري للدكتور عز الدين احمد موسى.
معالم تاريخ المغرب و الاندلس للدكتور حسين مؤنس.
تعليقات
إرسال تعليق