الانتفاضات المملوكية خلال العهد المملوكي .. حركة الشريف حصن الدين نموذجا
استقرت القبائل العربية في الصعيد المصري ( مصر الوسطى ) او عند اطراف الصحراء المصرية و من مختلف قبائل العرب جذام و لخم و بهراء وتغلب و قضاعة وهلال و غيرها منذ الفتح الإسلامي للديار المصرية ، وقد سمي العرب في مصر بالعربان ، و استقر بعضهم في صحراء شبه جزيرة سيناء و الصحراء الشرقية و الوجه القبلي بصفة عامة ؛ فعرفوا بعرب الوجه القبلي ، و يعيشون حياة البداوة و الترحال ، بينما اختار اخرون الاستقرار بالوجه البحري ذي المناطق الفلاحية الموجودة في منطقة الدلتا الساحلية و الشريط الخصب لنهر النيل و مزاولة الأنشطة الزراعية ؛ فسموا حينئذ بالعرب المزارعة.
حاول جميع حكام مصر الذين تعقبوا على حكمها من طولونيين واخشيديين وفاطميين وايوبيين و غيرهم استمالة العربان ومهادنتهم لاتقاء شرهم ، فلما قامت سلطنة المماليك البحرية بالديار المصرية اقطع سلاطينها شيوخ القبائل العربية الاقطاعات لكسب ودهم و ارضائهم ، غير ان هؤلاء العربان احتقروا الحكام الجدد و رفضوا الإذعان لحكمهم بسبب اصلهم غير الحر ؛ يقول شيخ الجعافرة بمصر نجم الدين عن عز الدين ابيك : ( مملوك قد مسه رق ) ، و اعتبروا انفسهم احق بالملك من المماليك بوصفهم فاتحي مصر الأوائل ، و قاد العربان اول مقاومة مسلحة ضد الحكم المملوكي بمصر تحت قيادة الشريف العلوي حصن الدين بن ثعلب شيخ قبيلة بني تغلب العربية في الصعيد المصري، فانضمت لحركته جموع من العوام الناقمين على السلطان عز الدين ابيك التركماني الذي كان يقول عنه عامة الشعب المصري: ( لا نريد الا سلطانا رئيسا مولودا على الفطرة ) .
ولعل السبب وراء الثورة العربية على المماليك البحرية بعد توليهم عرش مصر يرجع لرغبة العربان في انهاء الحكم الأجنبي لمصر ـ خاصة و أن المماليك طبقة أرستوقراطية حرصت على الانعزال عن الرعية ـ و إعادة الحكم للعرب الاحرار كما كان عليه الامر زمن صدر الإسلام بعد الفتح الإسلامي لمصر ، قد لخص حصن الدين بن ثعلب الدافع وراء ثورته في قوله : ( نحن أصحاب البلاد ، بل و انا احق بالملك من المماليك ، و كفى اننا خدمنا بني أيوب ، و هم خوارج خرجوا على هذه البلاد ) ، و عامل اقتصادي يتجلى في تعسف المماليك في تحديد الأسعار و التلاعب بقيمتها ؛ ما تسبب في الانعكاس بشكل سلبي على الوضع المادي للفلاح المصري آنذاك و اضطر المزارعون لهجر أراضيهم الفلاحية و ترك أعمالهم الزراعية و التوجه للمدن الكبرى قصد الاشتراك في النزاعات التي تحدث بين كبار امراء المماليك ، ما جعل بعض المؤرخين يفضلون حكم الصليبيين على الحكم المملوكي مثل ابن تغري بردي و المقريزي.
قاد الشريف حصن الدين بن ثعلب جموع الناقمين من العرب و العامة و تمكن من طرد المماليك من مصر الوسطى و حررها من بطشهم ، و هكذا تأسست في منطقة وسط مصر دويلة عربية إسلامية عاصمتها بالفيوم تعرف بذروة سريام او ذروة الشريف نسبة لزعيم الانتفاضة الشريف حصن الدين بن ثعلب ، و ليتمكن من القضاء على سلطنة المماليك البحرية اتصل قائد الحركة حصن الدين بن ثعلب سلطان مصر الوسطى الجديد بالأمير الايوبي الملك الناصر يوسف صاحب حلب في الشام للتنسيق بينهما قصد التحالف لمحاربة عدوهم المشترك مماليك السلطان السابق الملك الصالح نجم الدين ايوب الذين اصبحوا حكام مصر ، غير ان امير حلب الايوبي كان يرى ان لا طاقة له لمواجهة عز الدين ابيك و فضل التفاوض معه بدل قتاله.
بعدما ايقن حصن الدين عدم رغبة الناصر يوسف في عقد حلف لمواجهة المماليك قرر الاعتماد على قوة العربان وحدهم دون مساعدة خارجية ، فارسل السلطان عز الدين ابيك الأمير المملوكي فارس الدين أوقطاي في حملة تكونت من 5 الاف مقاتل لإخماد فتنة عربان مصر الوسطى ، جهز حصن الدين 12000 مقاتل لمجابهة الحملة المملوكية التي أرسلها عز الدين ، و انتهت المعركة في بلبيس عام 1253م بهزيمة الثائر حصن الدين بن ثعلب و الجموع العربية و انتصار العساكر المملوكية التي يقودها الأمير فارس الدين أوقطاي .
بعد هذا الانتصار الذي حققه عز الدين ابيك، قام بفرض المزيد من المكس على العربان و بطش بهم و عاملهم معاملة قاسية.
بقي حصن الدين في مصر الوسطى رغم الهزيمة التي تعرض لها و لم يستسلم ، كما اعاد الكرة مرة أخرى عام 1261م خلال فترة حكم السلطان المملوكي الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري الصالحي ، فقبض على الشريف و اعدمه في الإسكندرية.
لم تنتهي اضطرابات العربان في سلطنة المماليك بالقضاء على انتفاضة الشريف حصن الدين ، بل استمرت طيلة فترة حكمهم الطويل سواء خلال عهد السلطنة المملوكية الأولى ( دولة الترك البحرية ) او خلال عهد السلطنة المملوكية الثانية (دولة الجركس البرجية) و ازدادت حدة هذه الاضطرابات ، ما جعل سلاطين المماليك و امرائها و جنودها يسمون الانتفاضات العربية بفساد العربان ، و قام العرب اثناء هذه الثورات بجرائم و أعمال وحشية ؛ مثل نهب اقطاعات الامراء و قتل الفلاحين و قطع الطرق و مهاجمة قوافل الحجاج و الاغارة على احواز المدن.
المصادر و المراجع
بدائع الزهور و وقائع الدهور لأحمد بن احمد بن اياس ، تحقيق محمد مصطفى ، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1984.
النجوم الزاهرة في ملوك مصر و القاهرة لجمال الدين يوسف ابن تغري بردي ، تحقيق إبراهيم علي طرخان ، الهيئة المصرية العامة القاهرة مصر 1971.
السلوك لمعرفة دول الملوك لتقي الدين احمد المقريزي ، تحقيق سعيد عاشور.
المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الاثار لتقي الدين احمد المقريزي، تحقيق ايمن فؤاد سيد.
صبح الاعشى في صناعة الإنشا لأحمد بن علي القلقشندي، تحقيق يوسف الطويل ، دار الفكر دمشق1987م.
قيام دولة المماليك الأولى في مصر و الشام للدكتور احمد مختار العبادي ، مؤسسة شباب الجامعة 1988م.
دور القبائل العربية في صعيد مصر للدكتور ممدوح عبد الرحمن الريطى .
تاريخ المماليك في مصر و بلاد الشام للدكتور سهيل طقوش ، طبعة دار النفائس 1997.
تعليقات
إرسال تعليق